كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الرابعة كلام الله تعالى قديم لأنه ميز بين الخلق وبين الأمر ولو كان أمر الله مخلوقًا لما صح هذا التمييز. أجاب الجبائي بأنه لا يلزم من إفراد الأمر بالذكر عقيب الخلق أن لا يكون الأمر داخلًا في الخلق كقوله: {وملائكته ورسله وجبريل وميكال} [البقرة: 98] وعارض الكعبي بقوله: {فآمنوا بالله ورسوله النبي الأميّ الذي يؤمن بالله وكلماته} [الأعراف: 158] فإنه لو وجب مغايرة المعطوف للمعطوف عليه لزم أن تكون الكلمات غير الله تعالى، وكل ما كان غير الله تعالى فإنه محدث ومخلوق فكلمات الله مخلوقة. وقال القاضي: اتفق المفسرون على أنه ليس المراد بهذا الأمر كلام الله تعالى بل المرا به نفاذ إرادته وإظهار قدرته، وقال قوم: لا يبعد أن يقال الأمر داخل في الخلق ولكنه من حيث كونه أمرًا يدل على نوع آخر من الكمال والجلال. والمعنى له الخلق والإيجاد في المرتبة الأولى. ثم بعد الإيجاد والتكوين له الأمر والتكليف في المرتبة الثانية. وقال آخرون: معنى قوله: {ألا له الخلق} أنه إن شاء خلق وإن شاء لم يخلق، فقوله: {والأمر} يجب أن يكون معناه إن شاء أمر وإن شاء لم يأمر، ويلزم منه أن يكون الأمر محدثًا مخلوقًا لأنه لو كان قديمًا لم يكن ذلك الأمر بحسب مشيئته بل كان من لوازم ذاته فلا يصدق أنه إن شاء أمر وإن شاء لم يأمر هذا خلف. وأجيب بأنه لو كان الأمر داخلًا تحت الخلق لزم التكرار والأصل عدمه فلا يصار إليه إلا للضرورة ولا ضرورة هاهنا. الخامسة في الآية دلالة على أنه ليس لأحد أن يلزم غيره شيئًا إلا الله، ففعل الطاعة لا يوجب الثواب، وفعل المعصية لا يوجب العقاب، وإيصال الألم لا يوجب العوض. السادسة دلت الآية على أن القبيح لا يجوز أن يقبح لوجه عائد إليه، وأن الحسن لا يحسن لأمر عائد إليه وإلا لم يأمر إلا بما حصل فيه وجه الحسن ولم ينه إلا عما حصل فيه وجه القبح، فلا يكون متمكنًا من الأمر والنهي كيف شاء وأراد هذا خلف. السابعة أطلق الخلق والأمر فيعلم أنه لو أراد خلق ألف عالم بما فيه من العرش والكرسي والكواكب في أقل من لحظة لقدر عليه، لأن هذه الماهيات ممكنة والحق قادر على كل الممكنات. الثامنة قال قوم: الخلق صفة من صفات الله تعالى وهو غير المخلوق لأن أهل السنة يقولون: معنى قوله: {الأمر لله} أنه صفة له فكذا الخلق صفة قائمة بذاته فلا يكون مخلوقًا، وأجيب بأن الخلق لو كان غير المخلوق فإما أن يكون قديمًا ويلزم من قدمه قدم المخلوق، وإما أن يكون حادثًا فيفتقر إلى خلق آخر ويتسلسل، ويمكن أن يقال: الصفة قديمة والتعلق حادث.
التاسعة له الأمر يقتضي أن لا أمر لله. وقول النبي صلّى الله عليه وآله: «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» لا ينافي ذلك لأن الموجب لأمره في الحقيقة هو أمر الله تعالى، العاشرة في الآية دلالة على أن الله تعالى أمرًا ونهيًا على عباده والخلاف مع نفاة التكليف. قالوا: إن كان التكليف معلوم الوقوع كان واجب الوقوع فكان الأمر به تحصيلًا للحاصل، وإن كان غير معلوم الوقوع كان ممتنع الوقوع فكان الأمر به أمرًا بما يمتنع وقوعه وهو محال. وأيضًا إنه تعالى إن خلق الداعي إلى فعله كان واجب الوقوع وإلا فلا فائدة في الأمر به. وأيضًا الكافر أو الفاسق لا يستفيد بالتكليف، إلا الضرر المحض لأنه تعالى يعلم أنه لا يؤمن ولا يطيع وخلاف علم الله محال فلا يحصل من الأمر إلا مجرد استحقاق العذاب وهذا لا يليق بالرحيم الحليم. وأيضًا التكليف إن لم يكن لفائدة في الأمر فهو عبث، وإن كان لفائدة فلابد أن تعود إلى المكلف لأنه سبحانه غني فجميع الفوائد منحصرة في تحصيل نفع أو دفع ضر والله تعالى قادر على تحصيلهما للمكلف من غير واسطة التكليف فكان توسيط التكليف إضرارًا محضًا. والجواب أن أوّل الآية دل على أنه تعالى هو الخالق لكل العبيد، وإذا كان خالقًا لهم كان مالكًا لهم، وتصرف المالك في ملك نفسه كيف شاء مستحسن، ويحسن منه تعالى أن يأمر عباده بما شاء بمجرد كونه خالقًا لا كما يقول المعتزلة من كون ذلك الفعل صلاحًا أو من كونه موجب عوض أو ثواب. ولما بين أن له الأمر والنهي والحكم والتكليف ذكر أنه يستحق الثناء والتقديس فقال: {تبارك الله رب العالمين} وللبركة تفسيران: أحدهما الثبات والدوام ولا ريب أنه الواجب لذاته القائم بذاته الدائم الغني بذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه عن كل ما سواه. وثانيهما كثرة الآثام الفاضلة. ولا شك أن كل الخيرات والكمالات فائضة من جوده وإحسانه بل جميع الممكنات رشحة من بحار فضله وامتنانه. ثم لما بيّن كمال قدرته وحكمته وأرشد إلى التكليف الموصل إلى سعادة الدارين أتبعه ذكر ما يستعان به على تحصيل المطالب والمآرب الدينية والدنيوية فقال: {ادعوا ربكم تضرعًا وخفية} قال في الكشاف: نصب على الحال أي ذوي تضرع وخفية وكذلك {خوفًا وطمعًا} قلت: ويحتمل الانتصاب على المصدر مثل: رجع القهقرى. والتضرع التذلل وهو إظهار ذل النفس والخفية بالضم أو الكسر ضد العلانية. قال بعض العلماء: الدعاء هاهنا بمعنى العبادة لئلا يلزم التكرار وعطف الشيء على نفسه في قوله: {وادعوه خوفًا وطمعًا} والأظهر أنه على الأصل. ومن الناس من أنكر الدعاء قال: لأن المطلوب بالدعاء إن كان معلوم الوقوع أو كان مرادًا في الأزل أو كان على وفق الحكمة والمصلحة وقع لا محالة وإلا فلا فائدة فيه.
وأيضًا إنه نوع من سوء الأدب وعدم الرضا بالقضاء وقد يطب ما ليس بنافع له. وفيه من الاشتغال بغير الله وعدم التوكل عليه ما لا يخفى. والحق أن الدعاء نوع من أنواع العبادة ورفضه يستدعي رفض كثير من السوائل والوسائط والروابط، ولو لم يكن فيه إلاّ معرفة ذلة العبودية وعزة الربوبية لكفى بذلك فائدة، ولهذا روي عنه صلى الله عليه وسلم وآله: «ما من شيء أكرم على الله سبحانه من الدّعاء» إلا أنه لابد فيه من الإخلاص والصون عن الرياء والسمعة، وإليهما أشار بقوله: {تضرعًا وخفية} ونحن قد أطنبنا في تحقيق الدعاء وشرائطه في سورة البقرة في تفسير قوله: {وإذا سألك عبادي عني} [البقرة: 186] ثم ختم الآية بقوله: {إنه لا يحب المعتدين} وللمسلمين اتفاق على أنه ليس معنى المحبة عند إطلاقها على الله شهوة النفس وميل الطبع ولكنها عبارة عن إيصاله الثواب والخير إلى العبد، وهذا مبني على قول الكعبي وأبي الحسين أنه تعالى غير موصوف بالإرادة، وأن كونه مريدًا لأفعال نفسه عبارة عن إيجادها وفعلها، وكونه مريدًا لأفعال غيره هو كونه آمرًا بها. وأما الأشاعرة ومعتزلة البصرة القائلون بصفة الإرادة فإنهم فسروا المحبة بإرادة إيصال الثواب. وقال بعض العلماء: إنا نجد في الشاهد أن الأب يحب ابنه فيترتب على تلك المحبة إرادة إيصال الخيرات إلى ذلك الابن وكانت هذه الإرادة أثرًا من آثار تلك المحبة وثمرة من ثمراتها. غاية ما في الباب أن هذه المحبة في الشاهد عبارة عن الشهوة وميل الطبع ورغبة في النفس وذلك في حقه تعالى محال. إلا أنا نقول: لم لا يجوز أن يقال أن محبة الله صفة أخرى يترتب عليها إيصال الثواب أو إرادة الإيصال؟ لكنا لا نعرف تلك المحبة ما هي وكيف هي لأن عدم العلم بالشيء لا يوجب العلم بعدم ذلك الشيء. نظير ذلك أن أهل السنة يثبتون كونه مرئيًا ثم يقولون إن تلك الرؤية لا كرؤية الأجسام والألوان. ويعني بالمعتدين المجاوزين ما أمروا به فيشمل كل من خالف أمر الله ونهيه. وقال الكلبي وابن جريج: من الاعتداء رفع الصوت في الدعاء ويؤيده أنه أمر بالدعاء مقرونًا بالإخفاء وظاهره الوجوب إذ قد أثنى على زكريا فقال: {إذ نادى ربه نداء خفيًا} [مريم: 3] وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «دعوة في السر تعدل سبعين دعوة في العلانية» وعنه صلى الله عليه وسلم: «خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي» وعنه صلى الله عليه وآله: «سيكون قوم يعتدون في الدعاء وحسب المرء أن يقول اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ثم قرأ قوله إنه لا يحب المعتدين».
ومن هنا اختلف أرباب الطريقة أن الأولى في العبادات الإخفاء أم الإظهار فقيل: الأولى الإخفاء صونًا لها عن الرياء. وقيل: الأولى الإظهار ليرغب غيره في الاقتداء. وتوسط الشيخ محمد بن علي الحكيم الترمذي فقال: إن كان خائفًا على نفسه من الرياء فالأولى في حقه الإخفاء، وإن بلغ في الصفاء وقوة اليقين إلى حيث صار آمنًا من شائبة الرياء فالأولى في حقه الإظهار ليحصل فائدة الاقتداء. قال الشافعي: إظهار التأمين أفضل. وقال أبو حنيفة: الإخفاء أفضل لأنه إن كان دعاء وجب إخفاؤه لقوله: {ادعوا ربكم تضرعًا وخفية} وإن كان اسمًا من أسماء الله تعالى على ما قيل فكذلك لقوله تعالى: {واذكر ربك في نفسك تضرعًا وخيفة} فإن لم يثبت الوجوب فلا أقل من الندبية، ثم نهى عن مجامع المفاسد والمضار بقوله: {ولا تفسدوا في الأرض} فيدخل فيه خمسة أشياء: المنع من إفساد النفوس بالقتل، ومن إفساد الأموال بقطع الطريق والسرقة، وإفساد الأنساب بالزنا واللواط والقذف، وإفساد العقول بشرب المسكرات، وإفساد الأديان بالكفر والبدعة، وذلك أن قوله: {لا تفسدوا} منع عن إدخال ماهية الفساد في الوجود والمنع من الماهية يقتضي المنع من جميع أنواعه. ومعنى: {بعد إصلاحها} بعد أن أصلح خلق الأرض على الوجه المطابق لمنافع الخلق الموافق لمصالح المكلفين، أو المراد إصلاح الأرض بسبب إرسال الأنبياء وإنزال الكتب وتفصيل الشرائع، فإن الإقدام على تكذيب الرسل وإنكار الكتب والتمرد عن قبول الشرائع يقتضي وقوع الهرج والمرج وحدوث الفتن في الأرض. وفي الآية دلالة على أن الأصل في المضار الحرمة فإن وجدنا نصًا خاصًا يدل على جواز الإقدام على بعض المضار قضينا به تقديمًا للخاص على العام. وفيها أيضًا دلالة على أن كل عقد وقع التراضي به بين الخصمين فإنه منعقد صحيح لأن رفعه بعد ثبوته يكون إفسادًا بعد الإصلاح، فإن وجدنا نصًا يدل على عدم صحة بعض تلك العقود قضينا فيه بالبطلان عملًا بالأخص. فجميع أحكام الله تعالى داخلة تحت عموم هذه الآية الدالة على أن الأصل في المضار والآلام الحرمة كما كانت داخلة تحت عموم قوله: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} [الأعراف: 32] بأنها كانت تدل على أن الأصل في المنافع واللذات الإباحة والحل، فكل واحدة من الآيتين مطابقة ومؤكدة للأخرى، ثم لما بين أن الدعاء لابد أن يكون مقرونًا بالتضرع والإخفاء وبعدم المنافي وهو الإفساد بالوجوه الخمسة، ذكر أن فائدة الدعاء والباعث عليه أحد الأمرين الخوف من العقاب والطمع في الثواب. واعترض عليه بأن أهل السنة يقولون: التكاليف إنما وردت بمقتضى الإلهية والعبودية أي كونه إلهًا لنا، وكوننا عبيدًا له اقتضى أن يحسن منه أن يأمر عبيده بما شاء كيف شاء ولا يعتبر فيه كونه في نفسه صلاحًا وحسنًا.
والمعتزلة يقولون: إنها وردت لأنها في نفسها مصالح. فعلى القولين من أتى بها للخوف من العقاب والطمع في الثواب لم يأت بها لوجه وجوبها فوجب أن لا يصح. وأجيب بأن المراد من الآية ادعوه مع الخوف من وقوع التقصير في بعض الشرائط المعتبرة في قبول ذلك الدعاء ومع الطمع في حصول تلك الشرائط بأسرها أي كونوا جامعين في نفوسكم بين الخوف والرجاء في جميع أعمالكم ولا تقطعوا أنكم وإن اجتهدتم قد أديتم حق ربكم كقوله: {والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة} [المؤمنون: 6]. والجواب الصحيح عندي أن غاية التكليف من الآمر غير غايته من المأمور إذًا فهب أن الغاية الأولى هي المصلحة أو الإلهية والعبودية فلم لا يجوز أن تكون الغاية الثانية الخلاص من العذاب والوصول إلى الثواب؟ ثم ختم الآية بقوله: {إن رحمة الله قريب من المحسنين} ظاهره أن يقال قريبة. وذكروا في حذف علامة التأنيث وجوهًا: فقيل: لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي. وقال الزجاج: لأن الرحمة غير حقيقي. وقال الزجاج: لأن الرحمة والغفران والعفو والإنعام بمعنى واحد، أو لأن المراد بالرحمة الترحم أو الرحم. وقيل: إنه صفة موصوف محذوف أي شيء قريب، أو شبه بفعيل الذي بمعنى مفعول كما شبه ذاك به فقيل: قتلاء وأسراء، وقيل: لأنه بزنة المصدر كالنقيض صوت العقبان أو الدجاجة والضغيب صوت الأرنب. وقيل: المراد ذات مكان قريب كلابن وتامر، وروى الواحدي بإسناده عن ابن السكيت تقول العرب: هو قريب مني وهما قريب مني وهي قريب لأنه في تأويل هو في مكان قريب مني. قال بعض المفسرين: معنى هذا القرب أن الإنسان يزداد بعدًا عن الماضي وقربًا من المستقبل أي الآخرة التي هي مقام رحمة الله. ويمكن أن يقال: المراد به قرب الحصول سواء كان في الدنيا أو في الآخرة كقوله: {ألا إن نصر الله قريب} [البقرة: 214] قالت المعتزلة: إن ماهية الرحمة لما كانت حصة المحسنين وجب أن لا يحصل للكافر والفاسق منها شيء، والغرض أن صاحب الكبيرة لا يكون له نصيب من العفو. وأجيب بأن المحسن من صدر عنه الإحسان ولو من بعض الوجوه، فكل من آمن بالله تعالى وأقر بالتوحيد والنبوة فقد أحسن والدليل عليه الإجماع. على أن الصبي إذا بلغ وقت الضحوة وآمن بالله ورسوله واليوم الآخر ومات قبل الوصول إلى الظهر فإنه يسمى مؤمنًا محسنًا، على أن قوله ماهية الرحمة نصيب المحسنين ممنوع لأن الكافر أيضًا في رحمة الله ونعمته في الدنيا بدليل قوله: {ومن كفر فأمتعه} [البقرة: 126] ثم إنه سبحانه لما ذكر دلائل الإلهية وكمال العلم والقدرة من العالم العلوي أتبعه ذكر الدلائل من أحوال هذا العالم وهي الآثار العلوية من المعادن والنبات والحيوان ومن جملتها أحوال الرياح والسحب والأمطار.